وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين . و " الذي " في موضع نصب على النعت . " والأرحام " معطوف . أي اتقوا الله أن تعصوه , واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ أهل المدينة " تساءلون " بإدغام التاء في السين . وأهل الكوفة بحذف التاء , لاجتماع تاءين , وتخفيف السين ; لأن المعنى يعرف ; وهو كقوله : " ولا تعاونوا على الإثم " [ المائدة : 2 ] و " تنزل " وشبهه . وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة " الأرحام " بالخفض . وقد تكلم النحويون في ذلك . فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحل القراءة به . وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ; ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه ; قال النحاس : فيما علمت . وقال سيبويه : لم يعطف على المضمر المخفوض ; لأنه بمنزلة التنوين , والتنوين لا يعطف عليه . وقال جماعة : هو معطوف على المكني ; فإنهم كانوا يتساءلون بها , يقول الرجل : سألتك بالله والرحم ; هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد , وهو الصحيح في المسألة , على ما يأتي . وضعفه أقوام منهم الزجاج , وقالوا : يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض ; كقوله " فخسفنا به وبداره الأرض " [ القصص : 81 ] ويقبح " مررت به وزيد " . قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان . يحل كل واحد منهما محل صاحبه ; فكما لا يجوز " مررت بزيد وك " كذلك لا يجوز " مررت بك وزيد " . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر ; كما قال : فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب عطف " الأيام " على الكاف في " بك " بغير الباء للضرورة . وكذلك قول الآخر : نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف عطف " الكعب " على الضمير في " بينها " ضرورة . وقال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس . وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ " ما أنتم بمصرخي " [ إبراهيم : 22 ] و " اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " لأخذت نعلي ومضيت . قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ) فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم . ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم , وأنه خاص لله تعالى . قال النحاس : وقول بعضهم " والأرحام " قسم خطأ من المعنى والإعراب ; لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب . وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة , فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم ; ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم , إلى : والأرحام ) ; ثم قال : ( تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره ... ) وذكر الحديث . فمعنى هذا على النصب ; لأنه حضهم على صلة أرحامهم . وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) . فهذا يرد قول من قال : المعنى أسألك بالله وبالرحم . وقد قال أبو إسحاق : معنى " تساءلون به " يعني تطلبون حقوقكم به . ولا معنى للخفض أيضا مع هذا .
قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة " والأرحام " بالخفض , واختاره ابن عطية . ورده الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري , واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ; لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة , وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم , واستقبح ما قرأ به , وهذا مقام محذور , ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ; فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم , ولا يشك أحد في فصاحته . وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر ; لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء : ( وأبيك لو طعنت في خاصرته ) . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله , وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه . قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرحم , أي اتقوا الله وحق الرحم ; كما تقول : افعل كذا وحق أبيك . وقد جاء في التنزيل : " والنجم , والطور , والتين , لعمرك " وهذا تكلف
وقلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون " والأرحام " من هذا القبيل , فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه . والله أعلم . ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء , فلا يبعد أن يكون قسما . والعرب تقسم بالرحم . ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها فجر وإن لم يتقدم باء . قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك : والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه . ومنه قوله : آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشور ومنه : فاذهب فما بك والأيام من عجب وقول الآخر : وما بينها والكعب غوط نفانف ومنه : فحسبك والضحاك سيف مهند وقول الآخر : وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا وقول الآخر : ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعا وقول الآخر : أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها ف " سواها " مجرور الموضع بفي . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : " وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين " [ الحجر : 20 ] فعطف على الكاف والميم . وقرأ عبد الله بن يزيد " والأرحام " بالرفع على الابتداء , والخبر مقدر , تقديره : والأرحام أهل أن توصل . ويحتمل أن يكون إغراء ; لأن من العرب من يرفع المغرى . وأنشد الفراء : إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قا ل أخو النجدة السلاح السلاح وقد قيل : إن " والأرحام " بالنصب عطف على موضع به ; لأن موضعه نصب , ومنه قوله : فلسنا بالجبال ولا الحديدا وكانوا يقولون : أنشدك بالله والرحم . والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا .
اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ( نعم صلي أمك ) فأمرها بصلتها وهي كافرة . فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر , حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى , ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم ; وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من ملك ذا رحم محرم فهو حر ) . وهو قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود , ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري , وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق . ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول - أنه مخصوص بالآباء والأجداد .
الثاني - الجناحان يعني الإخوة .
الثالث - كقول أبي حنيفة . وقال الشافعي : لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته , ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته .
والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي . وأحسن طرقه رواية النسائي له ; رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه ) . وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه ; غير أن النسائي قال في آخره : هذا حديث منكر . وقال غيره : تفرد به ضمرة . وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين . وضمرة عدل ثقة , وانفراد الثقة بالحديث لا يضره . والله أعلم .
واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة . فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي بعتقهم . وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه ; واحتجوا بقوله عليه السلام : ( لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) . قالوا : فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك , ولصاحب الملك التصرف . وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع ; فإن الله تعالى يقول : " وبالوالدين إحسانا " [ الإسراء : 23 ] فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب , وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه ; فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث ( فيشتريه فيعتقه ) , أو لأجل الإحسان عملا بالآية . ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه . وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك , فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة , ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث , ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب , والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة ; فإنه يقول : أنا ابن أبيه . وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه . والله أعلم .
قوله تعالى : " والأرحام " الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة , ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ; ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام . فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند . وهم يرون ذلك نسخا , سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة , وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات . والله أعلم .