همر سواقه قمر
07-12-2008, 03:21 AM
الجزء الثالث
الفصل الثالث
عجزا حاولت إخراج بوارو عن صمته خلال الأيام القليلة التي أعقبت فعلة القتل القذرة و زيارة قيم المصحة العقلية المشؤومة تلك
ظل بوارو على مقعده الكبير يفكر تفكيرا شاقا , احبط كل محاولاتي على حمله على الحديث
كنت - طوال هذه المدة- انتظر رجعة المجرم الشقي , ورفضت أن أغادر البيت و لو للحظة واحدة ظنا مني انه ربما يعود ليأخذ الجثمان لا سيما انه لا يشك بتاتا أننا قد عرفناه , سخر مني بوارو ثانية و قال :
- فلتنتظر يا صديقي ما شئت حتى تضع الملح على ذيل الطير الصغير , أما أنا فلا أضيع وقتي مثلك
حاولت أن أجادله :
- حسنا يا بوارو , لماذا غامر إذن فأتى في المرة الأولى دون سبب و لم يكسب منا شيئا ؟ أنا إذن أستطيع أن التمس سببا لزيارته الثانية ربما كي يمحو الدليل ضده
و سخر مني مرة أخرى بطرقته التهكمية و قال :
- أنت لا تنظر بعين رقم ((4)) يا هيستنغز , ليس ثمة دليل ضده , الجثة عندنا و لا دليل أنها قتلت قتلا لان حمض بروسيك حين يستنشق لا يبقى له اثر, ثم هل عندك شاهد على القاتل ؟ بل لن تجد من يشهد انه رأى رجلا دخل البيت في غيابنا
إن المدمر يتقن حرفته جيدا و بمهارة تامة , نستطيع أن نقول بان زيارته كانت للاستطلاع , يريد أولا أن يتأكد من موت مايرلنغ ثم أن يرى هيركيول بوارو و يخاطب الخصم الذي يجب أن يحسب له – وحده – ألف حساب , أن يخاطبه عيانا , نعم
قلت في نفسي : أي غرور قد أصاب بوارو ! و جادلته قائلا :
- و ماذا عن التحقيق ؟ أظنك تستطيع أن توضح الصورة تماما و تخبر الشرطة عن أوصاف رقم ((4)) كاملة , اليس كذلك ؟
- لن نحقق فائدة و لن نعرف شيئا و لا يهمني ذكر أوصاف رقم ((4)) , لن تستطيع أن نغير قرار هيئة المحلفين الحكماء الذين سيسجلون بان موته عارض و ربما نفسح لمجرمنا الذكي أن يقول بفخر انه استطاع غلبة بوارو في الجولة الأولى !
و هكذا كانت تصدق نبوءات بوارو , انه بلا شك ذو بصيرة !
نحن لم نر قيم الصحة العقلية مرة أخرى , ولم يحقق التحقيق شيئا و لا أثار اهتمام الناس و إن كنت قدمت إفادتي في القضية , و هكذا ذهبت طي النسيان !
شعرت بعد نحو أسبوع بالسرور حين تفضل علي بوارو يسألني إن كنت ارغب في مرافقته في زيارة اعتزم القيام بها , وسألته عن مكانها لكنه لم يجبني , هكذا هو بوارو : غامض كتوم لا يبدي سرا حتى النهاية
شعرت انه مخطئ إذا سعى إلى الحل وحده من غير معين , جادلته لكن بلا فائدة !
كنا ننتقل من حافلة إلى أخرى تباعا , ثم اقلنا القطار إلى إحدى ضواحي لندن الكئيبة , و مازالت الهواجس تنتابني و ذهني يشرد من أمر إلى أمر و من فكرة إلى أختها ! ثم إذا ببوارو ينطق :
- نحن ذاهبان يا هيستنغز لنرى الرجل الوحيد في إنكلترا الذي يعرف كثيرا من دقائق و أسرار الحياة في الصين..
- عجبا! من هو ؟
- رجل لم تسمع به من قبل , هو موظف مدني مسرح , ذو ذكاء حسن , له بيت مليء بالتحف الصينية التي يضجر منها أصدقاؤه و خلانه , لقد أكد لي العارفون أنني لا أجد سواه من اجل ما ابحث عنه, انه السيد جون انغليز ..
و في بضع لحظات كنا على عتبة بيت ((الأكاليل)) بيت السيد انغليز , و سالت نفسي عن سر هذه التسمية المبهمة , لأنني لم أر شجرة إكليل قط !
كان فتى صيني بوجه ذي ملامح جامدة يقف عند المدخل سمح لنا بالدخول ثم قادنا إلى غرفة المجلس حيث كان سيده ..
رجل عريض المنكبين , قصير يبدو ماكرا , عيناه غائرتان تشيان بشخصيته
نهض يرحب بنا و كان يمسك رسالة مفتوحة , قال :
- هلا جلستما ؟ قد اخبرني هاسلي في رسالته انك تريد معلومات تنفعك في مسألتك
- نعم يا سيدي , جئت التمس بعض المعلومات عن شخص يدعى لي شانغ ين ..
- كيف سمعت بهذا الرجل؟
- أنت إذن تعرفه ؟
- قابلته مرة واحدة , و اعرف عنه القليل , ليس القدر المطلوب .. لكني اشعر بالمفاجأة لأن رجلا آخر في إنكلترا قد سمع بشانغ ين , ذلك رجل عظيم من طبقة الماندارين (كبار زعماء الإمبراطورية الصينية الأولى ) أنت تعلم لكن نقطة الحسم ليست هذه , عندي سبب مقنع انه الرجل الذي يقف وراء كل ذلك ..
- وراء ماذا ؟
- وراء كل شيء : القلاقل و المصاعب العمالية في أنحاء العالم كلها , و الثورات التي تتأجج هنا و هناك , الذين يعرفون الحقيقة و يستطيعون قولها قلة , يقولون : إن وراء الأحداث قوة خفية تسعى لتحطيم الإنسانية و الحضارة , صدقني إن لينين و ترتسكي في روسيا ما هما إلا دميتان تتحركان بفعل قوة خفية مسيطرة و دماغ مستتر , ليس عندي برهان لكنني مقتنع تماما أن هذا الدماغ هو لي شانغ ين !
- آه ما هذا؟هذا خيال ! كيف يستطيع رجل صيني أن يدير الأحداث في روسيا؟
قلت هذه الكلمة معارضا فنظر إلي بوارو شزر و عبس و زجرني قائلا :
- هذا عندك يا هيستنغز , فذاك مبلغك من الفهم , دع عنك مالا يعنيك , أما أنا فإني على قناعة بما يقول الرجل , اكمل يا سيدي أرجوك
- لا أستطيع أن اجزم بحقيقة ما يسعى إليه هذا الرجل بدقة , لعله مرض العقول العظيمة الذي يصيب العظماء منذ عصر الاسكندر الأكبر حتى عصر نابليون بونارت و العصر الحديث , التوق الشديد إلى السلطة و الرغبة في التفوق و العلو بقوة , أما في هذا القرن , قرن الثورات و القلقلة فان رجلا مثل لي شانغ ين يستطيع وسائل أخرى , عندي الدليل أن لديه أموالا طائلة يشتري بها الضمائر و يرشوها ,و دلائل أخرى تشير أن عنده قوة علمية مذهلة لا تتهيأ لبعض الدول في هذا العالم !
سأل بوارو الذي كان يصغي بانتباه شديد و يقظة تامة :
- و في الصين هل يملك الحركة و الأثر أيضا ؟
هز انغليز رأسه :
- اجل ربما لا أستطيع تقديم دليلا تعتد به المحكمة لكن لدي علما يقينا أن كل أولئك الرجال الكبار الذين يعظمهم الناس هم – في الحقيقة – دمى ترقص إذا سحبت خيوطها يد خفية تحركها إنها يد لي شانغ ين : الدماغ المهيمن على الشرق كله ! نحن لا نفهم الشرق و لن نفهمه , لكنني افهم لي شانغ ين و روحه المحركة , لا يظهر للناس و لا يستطيعون رؤيته , انه لا يخرج من قصره في بكين , و خيوطه ممتدة في كل مكان , هذا هو جوهر المسألة ثم تجري الأحداث بعيدا جدا !
بوارو :أليس في هذا العالم من يعارضه ؟
اعتدل انغليز في جلسته ثم مال إلى بوارو و دنا منه و تكلم بصوت خافت كأنه يفشي سرا :
- أربعة رجال حاولوا معارضته في الأربع السنين الأخيرة , رجال أذكياء مفكرون و على خلق متين و أمانة و مسؤولية , لكنهم كلما عارضه واحد منهم سكت إلى الأبد !
سألته : ثم ماذا يكون ؟
- لا ترى منهم أحدا ! أنت لا تعي كتب أحدهم مقالا يذكر فيه اسم شانغ ين مقرونا بحوادث الشغب في بكين فوجد بعد يومين مطعونا في الشارع و لم يقبض على قاتله ! جريمة الثلاثة الآخرين كانت هي نفسها : مقالة أو خطبة أو حديث , و في غضون أسبوع ترى أحدهم فارق الحياة , أحدهم مات مسموما , و الثاني مات بوباء ما , و الثالث وجد مقتولا في سريره دون أي اثر لمقتله , لكن الطبيب الذي فحص الجثة حدثني انه رأى الجثة و قد احترقت بصورة عجيبة من الكهرباء سرت فيها !
بوارو : ربما ترى علامة على العلاقة بين مصرعه و لي شانغ ين لكن لا بد من إشارات ...
- ها , علامة! نعم , نعم بالتأكيد , لقد جاءني مرة شاب صيني مختص بالكيمياء متوقد الذكاء , كان يعمل لحساب شانغ ين , أراد أن يحدثني بالتلميح عن تجاربه التي كان يجربها في القصر على الحمالين , و قال و هو على حافة الانهيار العصبي بأنه عمل مقرف يزدري الحياة الإنسانية ! ثم أصابه رعب كاد يقتله , كانت حاله تثير الشفقة في الأكباد التي لا تعرف الرحمة .. حملته إلى السرير في الغرفة العلوية ليحدثني في الليلية التالية لكن فعلتي هذه كانت عملا أحمق غبيا !
بوارو : كيف وصلوا إليه ؟
- هذا ما لم اعرفه .. صحوت تلك الليلة و النار تأكل منزلي و كنت محظوظا بالفرار أنا و زوجتي , ثم تبين من التحقيق أن نارا عظيمة اندلعت في الطابق الأعلى جعلت عظام صديقي الشاب رمادا !
تخيلت انغليز و هو يتكلم بجد و حماس كأنه حصان من حجر و بيده سيف من خشب و قد غرق في لجة العاطفة , لكنه حين نظر إلى أدرك انه مجروف بحماسته , ضحك يعتذر :
- أجل ليس عندي دليل واحد , و احسب انك مثل غيرك تقول بان كلامي أوهام مجردة و أحلام
- كلا , بل إني أصدقك يا سيدي ؛ لأن لي شانغ رجل في غاية الأهمية في نظري
- ما كنت أتوقع أن أجد أحدا بين الأحياء في إنكلترا قد سمع به أبدا , واجد نفسي مدفوعا لأسألك:كيف عرفت عنه لو سمحت ؟
- لقد لجأ إلى منزلي رجل مصاب بصدمة عصبية حادة , وكانت حاله النفسية و البدنية سيئة , لكنه استطاع أن يخبرنا شيئا مثيرا حول منظمة غريبة تدعى ((الأربعة الكبار))يرأسهم لي شانغ ين و هو عقلها المدبر و الثاني رجل أمريكي و الثالث امرأة فرنسية , و الرابع لقبه ((المدمر)) , لكن من أعلمنا بهم قد مات , فهلا أخبرتني يا سيدي عن منظمة الأربعة الكبار ؟ هل سمعت بهذا الاسم من قبل ؟
- قد سمعت بها أخيرا , لكن ليس بصفة ارتباطها بلي شانغ ين , أكاد لا اعرفهم .. ها , تذكرت ...
نهض قائما و اتجه سريعا إلى خزانة عتيقة في زاوية الغرفة , و رجع و هو يحمل رسالة مفتوحة ..
- رسالة من ملاح عجوز قابلته مرة في شنغهاي , رجل قد اشتعل رأسه شيبا , يمضي معظم وقته ثملا , فحملت الرسالة على انه هذيان رجل سكران ليس غير !
قرأها بصوت عالي ..
(( سيدي ,
ربما لا تذكرني لكنك أسديت لي في شنغجهاي معروفا آخر , إنني في أشد الحاجة إلى قدر من المال حتى أستطيع الخروج من هنا , أنا مختبئ تماما لكنهم قد يصلون إلي في أي يوم , أقصد الأربعة الكبار
إنها مسألة هامة خطيرة , حياة أم ممات , عندي مال كثير لكن يصعب علي السعي إليه مخافة أن يعرفوا مخبئي !
أرسل لي ورقتين من فئة المائة جنيه و سوف أردها لك , أقسم يا سيدي!
جوناثان والي ))
- صادرة عن :غرانيت بنغالو , هوباتون , دارتمور . لقد خشيت أنها حيلة سخيفة لسلب مائتي جنيه مني صعب علي جمعها , فإذا كانت هذه الرسالة تنفعك شيئا فلترسل له مائتي جنيه .
- شكرا لك يا سيدي , سوف انطلق الآن إلى هوباتون !
- و هل تمنعني أن أرافقك ؟
- سأكون مسرورا بصحبتك , هيا , يجب أن نذهب من فورنا , لن نصل إلى دارتمور قبل ظلمة الليل
و في غضون دقيقتين كان جون انغليز مستعدا , و في الحال كنا في القطار الذي ينطلق من حدود بادنغتون نحو الريف الغربي
هوباتون قرية صغيرة تقع على ارض سبخة في غور منخفض, تبعد تسعة أميال عن موتورن هاستيد ركوبا في السيارة
كانت الساعة حين وصلنا الثامنة , لكن ضوء النهار ما زال مشهودا فوق المكان
اتجهت السيارة عبر الشارع الضيق في القرية , ثم توقفنا عند عجوز ينتظر في قارعة الطريق , سألناه عن القرية فقال الرجل العجوز متأملا :
- غرانيت بنغالو .. هل تريدون غرانيت بنغالو ؟
ثم هز رأسه كأنما ذكر شيئا , ثم أشار نحو كوخ رمادي ناء في آخر الطريق :
- هناك البنغالو , هل تريدون رؤية المفتش ؟
بوارو بدهشة : أي مفتش ؟ ماذا حدث؟
- إذن فلم تسمعوا بالجريمة ؟ لقد كانت مروعة ! حماما من الدم كما يقولون !
بوارو هامسا : يجب أن أقابل هذا المفتش
مضت خمس دقائق قبل أن نجد المفتش الذي لم يكن يرغب الحديث معنا و بدا مترددا و كتوما , حتى ذكرنا له اسم ((جاب)) مفتش سكوتلانديارد المشهور تغير أسلوبه و صار حسنا :
- نعم يا سيدي , لقد قتل الرجل صباح اليوم .. جريمة في منتهى البشاعة ,و الحادث غامض من أوله , فعندما قدمت إلى مكان الحادث اثر مكالمة تليفونية و أنا في موتورن إذا برجل عجوز في السبعين من عمره مولع بكأسه كما قالوا ممدودا على الأرض في غرفة المعيشة و في أعلى رأسه اثر كدمة عنيفة و قد ذبح من الأذن إلى الأذن , الدم ملأ المكان و تماثيل صينية اختفت من البيت , ربما في ذلك إشارة إلى سطو لكن يخرق هذا الظن الأمور , فالبيت فيه خادمان : بتسي آندروز , امرأة من هوباتون , و رجل فظ يدعى روبرت غرانت
آندروز خرجت لتثرثر مع جارتها في حين ذهب غرانت كعادته في كل صباح إلى المزرعة كي يجلب الحليب , و عندما رجع دخل من باب البيت الخلفي فرأى الأبواب مفتوحة , ثم وضع الحليب و مضى يقرأ الصحيفة في غرفته و يدخن , ولم يكن يعلم شيئا يزعمه
أما بتسي فدخلت غرفة المعيشة فصرخت صرخة مريعة توقظ الأموات , هكذا قال غرانت
شخص ما دخل البيت و هما خارجه و قتل العجوز المسكين !
لا بد أن يكون لصا وقحا قدم من القرية ثم زحف في إحدى الساحات , هذا ظني لكن البيوت – كما ترى – محيطة بكل أنحاء غرانيت بنغالو , و كل من عبرها يرى , و لاسيما الغريب
ثم سكت المفتش بحركة درامية و قال بوارو :
- ها لقد فهمت ,اكمل ..
- حسنا يا سيدي , هذه مسألة تثير الشك , لقد شد انتباهي اختفاء التماثيل الثمينة , إذ لا يدرك قيمتها متسكع دوار , و في كل الأحوال فارتكاب الجريمة في وضح النهار مغامرة مجنونة , ألم يخش المجرم أن يستغيث العجوز بالصراخ ؟
إنغليز : أظن آيها المفتش أن الكدمة التي ظهرت في رأسه كانت قبل الوفاة ؟
- هذا صحيح تماما يا سيدي , ضربة شرسة على الرأس ثم أتى على حنجرته فقطعها من الوريد إلى الوريد , لكن عجبا كيف جاء ؟و كيف ذهب ؟ إني أظن أن أحدا لم يأت من الخارج , نظرت في المكان نظرة فاحص , كانت ليلة أمس ليلة ماطرة , رأيت أثر أقدام راحت و جاءت من المطبخ , نظرت في الأثر في غرفة المعيشة : اثر قدم بتسي و قدم والي في حذاء من القماش و قدم رجل آخر !
لقد مشى ذاك الرجل فوق بقع الدم , فتعقبت هذه الآثار الدموية فرأيت واحدة على عتبة باب روبرت غرانت , و رأيت لطخة من الدم باهتة في الغرفة
أما الشيء الآخر فإنني أمسكت حذاء غرانت و طابقته مع الأثر فرأيته منطبقا فعرفت أن القاتل كان فعلا من الداخل , لقد اعتقل غرانت من اجل التحقيق و كان يتجهز للسفر , هل تدري ماذا وجدت في حقيبته المخرومة ؟ لقد وجدت فيها التماثيل الثمينة و تذكرة , كان روبرت غرانت هر أبراهام بيغز الذي أدين بجريمة سابقة و اقتحام منزل قبل خمس سنين ..
و نظر المفتش إلينا نظرة زهو و فخر و قال :
- فماذا ترون آيها السادة ؟
بوارو : جلاء القضية هكذا يثير الدهشة ! إن بيغز أو غرانت هذا أحمق , و يبدو انه غير متعلم , أليس كذلك ؟
- ها , انه كذلك : فظ غليظ القلب , أمي لا يعرف ما معنى اثر القدم؟
- من الواضح انه لا يدرك خيال رجل التحري ! حسنا , أهنئك أيها المفتش, لكننا نود لو نرى مسرح الجريمة
- سوف نذهب معا و أريدكم أن تطلعوا على آثار الأقدام
- هذا ما أريد أن أراه بعيني
و انطلقنا خلف المفتش الذي كان يعدو أمامنا بخفة و نشاط , ثم جذبت بوارو إلي قليلا لأهمس في أذنه و لا يسمعني المفتش :
- ماذا تتوقع يا بوارو ؟ هل في الأمر شيء آخر ؟
- أجل يا صديقي , لقد اخبرنا السيد والي صراحة أن الأربعة الكبار يتعقبونه , إن كان غرانت قد فعلها فلماذا ؟ من اجل تمثال صغير ؟ أم هو جندي للأربعة الكبار ؟ و هذا ما أراه أنا ..
هل كان غرانت يفهم قيمة هذه التماثيل ؟ ألم يكن يستطيع أن يسرقها و يهرب و لا يقدم على فعله المروع هذا ؟ إنني أخشى أن صاحبنا المفتش لم يشغل خلاياه الرمادية , بل قاس آثار الأقدام و غفل عن التفكير العميق و نسق أفكاره بأسلوب محكم رصين
الفصل الثالث
عجزا حاولت إخراج بوارو عن صمته خلال الأيام القليلة التي أعقبت فعلة القتل القذرة و زيارة قيم المصحة العقلية المشؤومة تلك
ظل بوارو على مقعده الكبير يفكر تفكيرا شاقا , احبط كل محاولاتي على حمله على الحديث
كنت - طوال هذه المدة- انتظر رجعة المجرم الشقي , ورفضت أن أغادر البيت و لو للحظة واحدة ظنا مني انه ربما يعود ليأخذ الجثمان لا سيما انه لا يشك بتاتا أننا قد عرفناه , سخر مني بوارو ثانية و قال :
- فلتنتظر يا صديقي ما شئت حتى تضع الملح على ذيل الطير الصغير , أما أنا فلا أضيع وقتي مثلك
حاولت أن أجادله :
- حسنا يا بوارو , لماذا غامر إذن فأتى في المرة الأولى دون سبب و لم يكسب منا شيئا ؟ أنا إذن أستطيع أن التمس سببا لزيارته الثانية ربما كي يمحو الدليل ضده
و سخر مني مرة أخرى بطرقته التهكمية و قال :
- أنت لا تنظر بعين رقم ((4)) يا هيستنغز , ليس ثمة دليل ضده , الجثة عندنا و لا دليل أنها قتلت قتلا لان حمض بروسيك حين يستنشق لا يبقى له اثر, ثم هل عندك شاهد على القاتل ؟ بل لن تجد من يشهد انه رأى رجلا دخل البيت في غيابنا
إن المدمر يتقن حرفته جيدا و بمهارة تامة , نستطيع أن نقول بان زيارته كانت للاستطلاع , يريد أولا أن يتأكد من موت مايرلنغ ثم أن يرى هيركيول بوارو و يخاطب الخصم الذي يجب أن يحسب له – وحده – ألف حساب , أن يخاطبه عيانا , نعم
قلت في نفسي : أي غرور قد أصاب بوارو ! و جادلته قائلا :
- و ماذا عن التحقيق ؟ أظنك تستطيع أن توضح الصورة تماما و تخبر الشرطة عن أوصاف رقم ((4)) كاملة , اليس كذلك ؟
- لن نحقق فائدة و لن نعرف شيئا و لا يهمني ذكر أوصاف رقم ((4)) , لن تستطيع أن نغير قرار هيئة المحلفين الحكماء الذين سيسجلون بان موته عارض و ربما نفسح لمجرمنا الذكي أن يقول بفخر انه استطاع غلبة بوارو في الجولة الأولى !
و هكذا كانت تصدق نبوءات بوارو , انه بلا شك ذو بصيرة !
نحن لم نر قيم الصحة العقلية مرة أخرى , ولم يحقق التحقيق شيئا و لا أثار اهتمام الناس و إن كنت قدمت إفادتي في القضية , و هكذا ذهبت طي النسيان !
شعرت بعد نحو أسبوع بالسرور حين تفضل علي بوارو يسألني إن كنت ارغب في مرافقته في زيارة اعتزم القيام بها , وسألته عن مكانها لكنه لم يجبني , هكذا هو بوارو : غامض كتوم لا يبدي سرا حتى النهاية
شعرت انه مخطئ إذا سعى إلى الحل وحده من غير معين , جادلته لكن بلا فائدة !
كنا ننتقل من حافلة إلى أخرى تباعا , ثم اقلنا القطار إلى إحدى ضواحي لندن الكئيبة , و مازالت الهواجس تنتابني و ذهني يشرد من أمر إلى أمر و من فكرة إلى أختها ! ثم إذا ببوارو ينطق :
- نحن ذاهبان يا هيستنغز لنرى الرجل الوحيد في إنكلترا الذي يعرف كثيرا من دقائق و أسرار الحياة في الصين..
- عجبا! من هو ؟
- رجل لم تسمع به من قبل , هو موظف مدني مسرح , ذو ذكاء حسن , له بيت مليء بالتحف الصينية التي يضجر منها أصدقاؤه و خلانه , لقد أكد لي العارفون أنني لا أجد سواه من اجل ما ابحث عنه, انه السيد جون انغليز ..
و في بضع لحظات كنا على عتبة بيت ((الأكاليل)) بيت السيد انغليز , و سالت نفسي عن سر هذه التسمية المبهمة , لأنني لم أر شجرة إكليل قط !
كان فتى صيني بوجه ذي ملامح جامدة يقف عند المدخل سمح لنا بالدخول ثم قادنا إلى غرفة المجلس حيث كان سيده ..
رجل عريض المنكبين , قصير يبدو ماكرا , عيناه غائرتان تشيان بشخصيته
نهض يرحب بنا و كان يمسك رسالة مفتوحة , قال :
- هلا جلستما ؟ قد اخبرني هاسلي في رسالته انك تريد معلومات تنفعك في مسألتك
- نعم يا سيدي , جئت التمس بعض المعلومات عن شخص يدعى لي شانغ ين ..
- كيف سمعت بهذا الرجل؟
- أنت إذن تعرفه ؟
- قابلته مرة واحدة , و اعرف عنه القليل , ليس القدر المطلوب .. لكني اشعر بالمفاجأة لأن رجلا آخر في إنكلترا قد سمع بشانغ ين , ذلك رجل عظيم من طبقة الماندارين (كبار زعماء الإمبراطورية الصينية الأولى ) أنت تعلم لكن نقطة الحسم ليست هذه , عندي سبب مقنع انه الرجل الذي يقف وراء كل ذلك ..
- وراء ماذا ؟
- وراء كل شيء : القلاقل و المصاعب العمالية في أنحاء العالم كلها , و الثورات التي تتأجج هنا و هناك , الذين يعرفون الحقيقة و يستطيعون قولها قلة , يقولون : إن وراء الأحداث قوة خفية تسعى لتحطيم الإنسانية و الحضارة , صدقني إن لينين و ترتسكي في روسيا ما هما إلا دميتان تتحركان بفعل قوة خفية مسيطرة و دماغ مستتر , ليس عندي برهان لكنني مقتنع تماما أن هذا الدماغ هو لي شانغ ين !
- آه ما هذا؟هذا خيال ! كيف يستطيع رجل صيني أن يدير الأحداث في روسيا؟
قلت هذه الكلمة معارضا فنظر إلي بوارو شزر و عبس و زجرني قائلا :
- هذا عندك يا هيستنغز , فذاك مبلغك من الفهم , دع عنك مالا يعنيك , أما أنا فإني على قناعة بما يقول الرجل , اكمل يا سيدي أرجوك
- لا أستطيع أن اجزم بحقيقة ما يسعى إليه هذا الرجل بدقة , لعله مرض العقول العظيمة الذي يصيب العظماء منذ عصر الاسكندر الأكبر حتى عصر نابليون بونارت و العصر الحديث , التوق الشديد إلى السلطة و الرغبة في التفوق و العلو بقوة , أما في هذا القرن , قرن الثورات و القلقلة فان رجلا مثل لي شانغ ين يستطيع وسائل أخرى , عندي الدليل أن لديه أموالا طائلة يشتري بها الضمائر و يرشوها ,و دلائل أخرى تشير أن عنده قوة علمية مذهلة لا تتهيأ لبعض الدول في هذا العالم !
سأل بوارو الذي كان يصغي بانتباه شديد و يقظة تامة :
- و في الصين هل يملك الحركة و الأثر أيضا ؟
هز انغليز رأسه :
- اجل ربما لا أستطيع تقديم دليلا تعتد به المحكمة لكن لدي علما يقينا أن كل أولئك الرجال الكبار الذين يعظمهم الناس هم – في الحقيقة – دمى ترقص إذا سحبت خيوطها يد خفية تحركها إنها يد لي شانغ ين : الدماغ المهيمن على الشرق كله ! نحن لا نفهم الشرق و لن نفهمه , لكنني افهم لي شانغ ين و روحه المحركة , لا يظهر للناس و لا يستطيعون رؤيته , انه لا يخرج من قصره في بكين , و خيوطه ممتدة في كل مكان , هذا هو جوهر المسألة ثم تجري الأحداث بعيدا جدا !
بوارو :أليس في هذا العالم من يعارضه ؟
اعتدل انغليز في جلسته ثم مال إلى بوارو و دنا منه و تكلم بصوت خافت كأنه يفشي سرا :
- أربعة رجال حاولوا معارضته في الأربع السنين الأخيرة , رجال أذكياء مفكرون و على خلق متين و أمانة و مسؤولية , لكنهم كلما عارضه واحد منهم سكت إلى الأبد !
سألته : ثم ماذا يكون ؟
- لا ترى منهم أحدا ! أنت لا تعي كتب أحدهم مقالا يذكر فيه اسم شانغ ين مقرونا بحوادث الشغب في بكين فوجد بعد يومين مطعونا في الشارع و لم يقبض على قاتله ! جريمة الثلاثة الآخرين كانت هي نفسها : مقالة أو خطبة أو حديث , و في غضون أسبوع ترى أحدهم فارق الحياة , أحدهم مات مسموما , و الثاني مات بوباء ما , و الثالث وجد مقتولا في سريره دون أي اثر لمقتله , لكن الطبيب الذي فحص الجثة حدثني انه رأى الجثة و قد احترقت بصورة عجيبة من الكهرباء سرت فيها !
بوارو : ربما ترى علامة على العلاقة بين مصرعه و لي شانغ ين لكن لا بد من إشارات ...
- ها , علامة! نعم , نعم بالتأكيد , لقد جاءني مرة شاب صيني مختص بالكيمياء متوقد الذكاء , كان يعمل لحساب شانغ ين , أراد أن يحدثني بالتلميح عن تجاربه التي كان يجربها في القصر على الحمالين , و قال و هو على حافة الانهيار العصبي بأنه عمل مقرف يزدري الحياة الإنسانية ! ثم أصابه رعب كاد يقتله , كانت حاله تثير الشفقة في الأكباد التي لا تعرف الرحمة .. حملته إلى السرير في الغرفة العلوية ليحدثني في الليلية التالية لكن فعلتي هذه كانت عملا أحمق غبيا !
بوارو : كيف وصلوا إليه ؟
- هذا ما لم اعرفه .. صحوت تلك الليلة و النار تأكل منزلي و كنت محظوظا بالفرار أنا و زوجتي , ثم تبين من التحقيق أن نارا عظيمة اندلعت في الطابق الأعلى جعلت عظام صديقي الشاب رمادا !
تخيلت انغليز و هو يتكلم بجد و حماس كأنه حصان من حجر و بيده سيف من خشب و قد غرق في لجة العاطفة , لكنه حين نظر إلى أدرك انه مجروف بحماسته , ضحك يعتذر :
- أجل ليس عندي دليل واحد , و احسب انك مثل غيرك تقول بان كلامي أوهام مجردة و أحلام
- كلا , بل إني أصدقك يا سيدي ؛ لأن لي شانغ رجل في غاية الأهمية في نظري
- ما كنت أتوقع أن أجد أحدا بين الأحياء في إنكلترا قد سمع به أبدا , واجد نفسي مدفوعا لأسألك:كيف عرفت عنه لو سمحت ؟
- لقد لجأ إلى منزلي رجل مصاب بصدمة عصبية حادة , وكانت حاله النفسية و البدنية سيئة , لكنه استطاع أن يخبرنا شيئا مثيرا حول منظمة غريبة تدعى ((الأربعة الكبار))يرأسهم لي شانغ ين و هو عقلها المدبر و الثاني رجل أمريكي و الثالث امرأة فرنسية , و الرابع لقبه ((المدمر)) , لكن من أعلمنا بهم قد مات , فهلا أخبرتني يا سيدي عن منظمة الأربعة الكبار ؟ هل سمعت بهذا الاسم من قبل ؟
- قد سمعت بها أخيرا , لكن ليس بصفة ارتباطها بلي شانغ ين , أكاد لا اعرفهم .. ها , تذكرت ...
نهض قائما و اتجه سريعا إلى خزانة عتيقة في زاوية الغرفة , و رجع و هو يحمل رسالة مفتوحة ..
- رسالة من ملاح عجوز قابلته مرة في شنغهاي , رجل قد اشتعل رأسه شيبا , يمضي معظم وقته ثملا , فحملت الرسالة على انه هذيان رجل سكران ليس غير !
قرأها بصوت عالي ..
(( سيدي ,
ربما لا تذكرني لكنك أسديت لي في شنغجهاي معروفا آخر , إنني في أشد الحاجة إلى قدر من المال حتى أستطيع الخروج من هنا , أنا مختبئ تماما لكنهم قد يصلون إلي في أي يوم , أقصد الأربعة الكبار
إنها مسألة هامة خطيرة , حياة أم ممات , عندي مال كثير لكن يصعب علي السعي إليه مخافة أن يعرفوا مخبئي !
أرسل لي ورقتين من فئة المائة جنيه و سوف أردها لك , أقسم يا سيدي!
جوناثان والي ))
- صادرة عن :غرانيت بنغالو , هوباتون , دارتمور . لقد خشيت أنها حيلة سخيفة لسلب مائتي جنيه مني صعب علي جمعها , فإذا كانت هذه الرسالة تنفعك شيئا فلترسل له مائتي جنيه .
- شكرا لك يا سيدي , سوف انطلق الآن إلى هوباتون !
- و هل تمنعني أن أرافقك ؟
- سأكون مسرورا بصحبتك , هيا , يجب أن نذهب من فورنا , لن نصل إلى دارتمور قبل ظلمة الليل
و في غضون دقيقتين كان جون انغليز مستعدا , و في الحال كنا في القطار الذي ينطلق من حدود بادنغتون نحو الريف الغربي
هوباتون قرية صغيرة تقع على ارض سبخة في غور منخفض, تبعد تسعة أميال عن موتورن هاستيد ركوبا في السيارة
كانت الساعة حين وصلنا الثامنة , لكن ضوء النهار ما زال مشهودا فوق المكان
اتجهت السيارة عبر الشارع الضيق في القرية , ثم توقفنا عند عجوز ينتظر في قارعة الطريق , سألناه عن القرية فقال الرجل العجوز متأملا :
- غرانيت بنغالو .. هل تريدون غرانيت بنغالو ؟
ثم هز رأسه كأنما ذكر شيئا , ثم أشار نحو كوخ رمادي ناء في آخر الطريق :
- هناك البنغالو , هل تريدون رؤية المفتش ؟
بوارو بدهشة : أي مفتش ؟ ماذا حدث؟
- إذن فلم تسمعوا بالجريمة ؟ لقد كانت مروعة ! حماما من الدم كما يقولون !
بوارو هامسا : يجب أن أقابل هذا المفتش
مضت خمس دقائق قبل أن نجد المفتش الذي لم يكن يرغب الحديث معنا و بدا مترددا و كتوما , حتى ذكرنا له اسم ((جاب)) مفتش سكوتلانديارد المشهور تغير أسلوبه و صار حسنا :
- نعم يا سيدي , لقد قتل الرجل صباح اليوم .. جريمة في منتهى البشاعة ,و الحادث غامض من أوله , فعندما قدمت إلى مكان الحادث اثر مكالمة تليفونية و أنا في موتورن إذا برجل عجوز في السبعين من عمره مولع بكأسه كما قالوا ممدودا على الأرض في غرفة المعيشة و في أعلى رأسه اثر كدمة عنيفة و قد ذبح من الأذن إلى الأذن , الدم ملأ المكان و تماثيل صينية اختفت من البيت , ربما في ذلك إشارة إلى سطو لكن يخرق هذا الظن الأمور , فالبيت فيه خادمان : بتسي آندروز , امرأة من هوباتون , و رجل فظ يدعى روبرت غرانت
آندروز خرجت لتثرثر مع جارتها في حين ذهب غرانت كعادته في كل صباح إلى المزرعة كي يجلب الحليب , و عندما رجع دخل من باب البيت الخلفي فرأى الأبواب مفتوحة , ثم وضع الحليب و مضى يقرأ الصحيفة في غرفته و يدخن , ولم يكن يعلم شيئا يزعمه
أما بتسي فدخلت غرفة المعيشة فصرخت صرخة مريعة توقظ الأموات , هكذا قال غرانت
شخص ما دخل البيت و هما خارجه و قتل العجوز المسكين !
لا بد أن يكون لصا وقحا قدم من القرية ثم زحف في إحدى الساحات , هذا ظني لكن البيوت – كما ترى – محيطة بكل أنحاء غرانيت بنغالو , و كل من عبرها يرى , و لاسيما الغريب
ثم سكت المفتش بحركة درامية و قال بوارو :
- ها لقد فهمت ,اكمل ..
- حسنا يا سيدي , هذه مسألة تثير الشك , لقد شد انتباهي اختفاء التماثيل الثمينة , إذ لا يدرك قيمتها متسكع دوار , و في كل الأحوال فارتكاب الجريمة في وضح النهار مغامرة مجنونة , ألم يخش المجرم أن يستغيث العجوز بالصراخ ؟
إنغليز : أظن آيها المفتش أن الكدمة التي ظهرت في رأسه كانت قبل الوفاة ؟
- هذا صحيح تماما يا سيدي , ضربة شرسة على الرأس ثم أتى على حنجرته فقطعها من الوريد إلى الوريد , لكن عجبا كيف جاء ؟و كيف ذهب ؟ إني أظن أن أحدا لم يأت من الخارج , نظرت في المكان نظرة فاحص , كانت ليلة أمس ليلة ماطرة , رأيت أثر أقدام راحت و جاءت من المطبخ , نظرت في الأثر في غرفة المعيشة : اثر قدم بتسي و قدم والي في حذاء من القماش و قدم رجل آخر !
لقد مشى ذاك الرجل فوق بقع الدم , فتعقبت هذه الآثار الدموية فرأيت واحدة على عتبة باب روبرت غرانت , و رأيت لطخة من الدم باهتة في الغرفة
أما الشيء الآخر فإنني أمسكت حذاء غرانت و طابقته مع الأثر فرأيته منطبقا فعرفت أن القاتل كان فعلا من الداخل , لقد اعتقل غرانت من اجل التحقيق و كان يتجهز للسفر , هل تدري ماذا وجدت في حقيبته المخرومة ؟ لقد وجدت فيها التماثيل الثمينة و تذكرة , كان روبرت غرانت هر أبراهام بيغز الذي أدين بجريمة سابقة و اقتحام منزل قبل خمس سنين ..
و نظر المفتش إلينا نظرة زهو و فخر و قال :
- فماذا ترون آيها السادة ؟
بوارو : جلاء القضية هكذا يثير الدهشة ! إن بيغز أو غرانت هذا أحمق , و يبدو انه غير متعلم , أليس كذلك ؟
- ها , انه كذلك : فظ غليظ القلب , أمي لا يعرف ما معنى اثر القدم؟
- من الواضح انه لا يدرك خيال رجل التحري ! حسنا , أهنئك أيها المفتش, لكننا نود لو نرى مسرح الجريمة
- سوف نذهب معا و أريدكم أن تطلعوا على آثار الأقدام
- هذا ما أريد أن أراه بعيني
و انطلقنا خلف المفتش الذي كان يعدو أمامنا بخفة و نشاط , ثم جذبت بوارو إلي قليلا لأهمس في أذنه و لا يسمعني المفتش :
- ماذا تتوقع يا بوارو ؟ هل في الأمر شيء آخر ؟
- أجل يا صديقي , لقد اخبرنا السيد والي صراحة أن الأربعة الكبار يتعقبونه , إن كان غرانت قد فعلها فلماذا ؟ من اجل تمثال صغير ؟ أم هو جندي للأربعة الكبار ؟ و هذا ما أراه أنا ..
هل كان غرانت يفهم قيمة هذه التماثيل ؟ ألم يكن يستطيع أن يسرقها و يهرب و لا يقدم على فعله المروع هذا ؟ إنني أخشى أن صاحبنا المفتش لم يشغل خلاياه الرمادية , بل قاس آثار الأقدام و غفل عن التفكير العميق و نسق أفكاره بأسلوب محكم رصين